الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} تقدم. {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار} قوله تعالى{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم} قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل سورة النضير؛ وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان من أموهم ما نص الله عليه. {لأول الحشر} الحشر الجمع؛ وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة؛ أما الذي في الدنيا فقوله تعالى{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء؛ فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. قال الكيا الطبري: ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجور الآن، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ. والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم. قوله تعالى{ما ظننتم أن يخرجوا} يريد لعظم أمر اليهود ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين، واجتماع كلمتهم. {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم} قيل: هي الوطيح والنطاة والسلالم والكتيبة. {من الله} أي من أمره. وكانوا أهل حلقة - أي سلاح كثير - وحصون منيعة؛ فلم يمنعهم شيء منها. {فأتاهم الله} أي أمره وعذابه. {من حيث لم يحتسبوا أي لم يظنوا. وقيل: من حيث لم يعلموا. وقيل{من حيث لم يحتسبوا} بقتل كعب بن الأشرف؛ قال ابن جريج والسدي وأبو صالح. {وقذف في قلوبهم الرعب} بقتل سيدهم كعب بن الأشرف؛ وكان الذي قتله هو محمد بن مسلمة وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وخبره مشهور في السيرة. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قوله تعالى{يخربون بيوتهم} قراءة العامة بالتخفيف من أخرب؛ أي يهدمون. وقرأ السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو {يخربون} بالتشديد من التخريب. قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد لأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن، وبنو النضر لم يتركوها خرابا وإنما خربوها بالهدم؛ يؤيده قوله تعالى{بأيديهم وأيدي المؤمنين}. وقال آخرون: التحريب والإخراب بمعنى واحد، والتشديد بمعنى التكثير. وحكى سيبويه: أن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان؛ نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته. واختار أبو عبيد وأبو حاتم الأولى. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. فروي أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له؛ فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت في التوراة، فلا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة ثم صبحهم بالكتاب؛ فقال لهم. اخرجوا من المدينة. فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك؛ فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فدس إليهم عبدالله بن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح؛ فأبى عليهم إلا الجلاء؛ على ما يأتي بيانه. وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل؛ كانوا يستحسنون الخشبة والعمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وعن ابن زيد أيضا: كانوا يخربونها لئلا يسكنها المسلمون بعدهم. وقال ابن عباس: كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع موضع القتال، وهم ينقبون دورهم من أدبارها إلى التي بعدها ليتحصنوا فيها، ويرموا بالتي أخرجوا منها المسلمين. وقيل: ليسدوا بها أزقتهم. وقال عكرمة {بأيديهم} في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذه المسلمون. و{أيدي المؤمنين} في إخراب ظاهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها{ فخربوها من داخل وخربها المسلمون من خارج. وقيل}يخربون بيوتهم{ بنقض المواعدة }وأيدي المؤمنين{ بالمقاتلة؛ قال الزهري أيضا. وقال أبو عمرو بن العلاء {بأيديهم} في تركهم لها. و{أيدي المؤمنين} في إجلائهم عنها. قال ابن العربي: التناول للإفساد إذا كان باليد كان حقيقة، وإذا كان بنقض العهد كان مجازا؛ إلا أن قول الزهري في المجاز أمثل من قول أبي عمرو بن العلاء. قوله تعالى{فاعتبروا يا أولي الأبصار أي اتعظوا يا أصحاب العقول والألباب. وقيل: يا من عاين ذلك ببصره؛ فهو جمع للبصر. ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحصون من الله فأنزلهم الله منها. ومن وجوهه: أنه سلط عليهم من كان ينصرهم. ومن وجوهه أيضا: أنهم هدموا أموالهم بأيديهم. ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه. وفي الأمثال الصحيحة السعيد من وعظ بغيره . {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب} قوله تعالى{ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء} أي لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم وأنهم يبقون مدة فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن. {لعذبهم في الدنيا} أي بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. والجلاء مفارقة الوطن يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا من وجهين: أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة؛ قاله الماوردي. {ذلك} أي ذلك الجلاء {بأنهم شاقوا الله ورسوله} أي عادوه وخالفوا أمره. {ومن يشاق الله} قرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميقع {ومن يشاقق الله} بإظهار التضعيف كالتي في {الأنفال}، وأدغم الباقون. {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} قوله تعالى{ما قطعتم من لينة} {ما} في محل نصب بـ {قطعتم}؛ كأنه قال: أي شيء قطعتم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير - وهي البويرة - حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها. واختلفوا في عدد ذلك؛ فقال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة. وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره؛ إما لإضعافهم بها وإما لسعة المكان بقطعها. فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل الكتاب : يا محمد، ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا؛ فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: أقطعوا لنغيظهم بذلك. فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله. وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك: وأنتم رعاء لشاء عجاف بسهل تهامة والأخيف
ترون الرعاية مجدا لكم لدى كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الزهور يدلن من العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها وعقر النخيل ولم تقطف فأجابه حسان بن ثابت: همو أوتوا الكتاب فضيعوه وهم عمي عن التوراة بور
كفرتم بالقران وقد أبيتم بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لوي حريق بالبويرة مستطير فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب: ستعلم أينا منها بنزه وتعلم أي أرضينا تصير
فلو كان النخيل بها ركابا لقالوا لا مقام لكم فسيروا كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه في الحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودس عبدالله بن أبي ابن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلنا قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم؛ فاغتروا بذلك. فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن دمائهم ويجليهم؛ على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم؛ كحيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع. فدانت لهم خيبر. وفي ذلك نزلت {ما قطعتم من لينة} الآية. واختلف الناس في تخريب دار العدو وتحريقها وقطع ثمارها على قولين: الأول: أن ذلك جائز؛ قال في المدونة. الثاني: إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن يئسوا فعلوا؛ قاله مالك في الواضحة. وعليه يناظر أصحاب الشافعي. ابن العربي: والصحيح الأول. وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخل بني النضير له؛ ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها. وإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحة جائزة شرعا، مقصودة عقلا. قال الماوردي: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب. وقاله الكيا الطبري قال: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي ذلك وسكت؛ فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذأ باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه؛ أخذا بعموم الأذية للكفار، ودخولا في الإذن للكل لما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار؛ وذلك قوله تعالى{وليخزي الفاسقين}. وقيل: إن اللينة الفسيلة؛ لأنها ألين من النخلة. ومنه قول الشاعر: وقيل: إن اللينة الأشجار كلها للينها بالحياة؛ قال ذو الرمة: والقول العاشر: أنها الدقل؛ قال الأصمعي. قال: وأهل المدينة يقولون لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان؛ يعنون الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قال الزهري ومالك لوجهين: أحدهما: أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. الثاني: أن الاشتقاق يعضده، وأهل اللغة يصححونه؛ فإن اللينة وزنها لونة، واعتلت على أصولهم قالت إلى لينة فهي لون، فإذا دخلت الهاء كسر أولها؛ كبرك الصدر بفتح الباء وبركه بكسرها لأجل الهاء. وقيل لينة أصلها لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وجمع اللينة لين. وقيل: ليان؛ قال امرؤ القيس يصف عنق فرسه: وقال الأخفش: إنما سميت لينة اشتقاقا من اللون لا من اللين. المهدوي: واختلف في اشتقاقها؛ فقيل: هي من اللون وأصلها لونة. وقيل: أصلها لينة من لان يلين. وقرأ عبدالله {ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماء على أصولها} أي قائمة على سوقها. وقرأ الأعمش {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قوما على أصولها} المعنى لم تقطعوها. وقرئ {قوماء على أصلها}. وفيه وجهان: أحدهما: أنه جمع أصل؛ كرهن ورهن. والثاني: اكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرئ {قائما على أصوله} ذهابا إلى لفظ {ما}. {فبإذن الله} أي بأمره {وليخزي الفاسقين} أي ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه. {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير، ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} قوله تعالى{وما أفاء الله} يعني ما رده الله تعالى {على رسوله} من أموال بني النضير. {قما أوجفتم عليه} أوضعتم عليه. والإيجاف: الإيضاع في السير وهو الإسراع؛ يقال: وجف الفرس إذا أسرع، وأوجفته أنا أي حركته وأتعبته؛ ومنه قول تميم بن مقبل: والركاب الإبل، واحدها راحلة. يقول: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حربا ولا مشقة؛ وإنما كانت من المدينة على ميلين؛ قاله الفراء. فمشوا إليها مشيا ولم يركبوا خيلا ولا إبلا؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملا وقيل حمارا مخطوما بليف، فافتتحها صلحا وأجلاهم وأخذ أموالهم. فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم فنزلت{وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه} الآية. فجعل أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء؛ فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين. قال الواقدي: ورواه ابن وهب عن مالك؛ ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين؛ منهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقيل: إنما أعطى رجلين، سهلا وأبا دجانة. ويقال: أعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: سفيان بن عمير، وسعد بن وهب؛ أسلما على أموالهما فأحرزاها. قوله تعالى{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} قال ابن عباس: هي قريظة والنضير، وهما بالمدينة وفدك، وهي على ثلاثة أيام من المدينة وخيبر. وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله. وبين أن في ذلك المال الذي خصه بالرسول عليه السلام سهمانا لغير الرسول نظرا منه لعباده. وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها، هل معناهما واحد أو مختلف، والآية التي في الأنفال؛ فقال قوم من العلماء: إن قوله تعالى{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} منسوخ بما في سورة الأنفال من كون الخمس لمن سمي له، والأخماس الأربعة لمن قاتل. وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف ولا يكون لمن قاتل عليها شيء. وهذا قول يزيد بن رومان وقتادة وغيرهما. ونحوه عن مالك. وقال قوم: إنما غنم بصلح من غير إيجاف خيل ولا ركاب؛ فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئا والأولى للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين. وقال معمر: الأولى: للنبي صلى الله عليه وسلم. والثانية: هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه. والثالثة: الغنيمة في سورة الأنفال للغانمين. وقال قوم منهم الشافعي: إن معنى الآيتين واحد؛ أي ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهم؛ أربعة منها للنبي صلى الله عليه وسلم. وكان الخمس الباقي على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وسهم لذوي القربى - وهم بنو هاشم وبنو المطلب - لأنهم منعوا الصدقة فجعل لهم حق في الفيء. وسهم لليتامى. وسهم للمساكين. وسهم لابن السبيل. وأما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي كان من ألفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي في قول إلى المجاهدين المترصدين للقتال في الثغور؛ لأنهم القائمون مقام الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي قول آخر له: يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر؛ يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء. فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهو لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خلاف؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: وكذلك ما خلفه من المال غير موروث، بل هو صدقة يصرف عنه إلى مصالح المسلمين؛ كما قال عليه السلام: قوله تعالى{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول} وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول. وسمى الآية الثالثة آية الغنيمة، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق ثان لمستحق آخر، بيد أن الآية الأولى والثانية، اشتركتا في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال؛ فنشأ الخلاف من ها هنا، فمن طائفة قالت: هي ملحقة بالأولى، وهو مال الصلح كله ونحوه. ومن طائفة قالت: هي ملحقة بالثانية وهي آية الأنفال. والذين قالوا أنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا؛ هل هي منسوخة - كما تقدم - أو محكمة؟ وإلحاقها بشهادة الله بالتي قبلها أولى؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى. ومعلوم أن حمل الحرف من الآية فضلا عن الآية على فائدة متجددة أولى من حمله على فائدة معادة. وروى ابن وهب عن مالك في قوله تعالى{فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} بني النضير، لم يكن فيها خمس ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. كانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار؛ حسب ما تقدم. وقوله{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} هي قريظة، وكانت قريظة والخندق في يوم واحد. قال ابن العربي: قول مالك إن الآية الثانية في بني قريظة، إشارة إلى أن معناها يعود إلى آية الأنفال، ويلحقها النسخ. وهذا أقوى من القول بالإحكام. ونحن لا نختار إلا ما قسمنا وبينا أن الآية الثانية لها معنى مجدد حسب ما دللنا عليه. والله اعلم. قلت: ما اختاره حسن. وقد قيل إن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال، فمن المحال أن ينسخ المتقدم المتأخر. وقال ابن أبي نجيح: المال ثلاثة: مغنم، أو فيء، أو صدقة، وليس منه درهم إلا وقد بين الله موضعه. وهذا أشبه. الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم؛ كالصدقات والزكوات. والثاني: الغنائم؛ وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث: الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف؛ كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له. فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملين عليها؛ حسب ما ذكره الله تعالى، وقد مضى في براءة . وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء؛ كما قال في سورة الأنفال واختلف في إعطاء الغني منهم؛ فأكثر الناس على إعطائه لأنه حق لهم. وقال مالك: لا يعطي منه غير فقرائهم، لأنه جعل لهم عوضا من الصدقة. وقال الشافعي: أيما حصل من أموال الكفار من غير قتال كان يقسم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهما: عشرون للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء. والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة. قال أبو جعفر أحمد بن الداودي: وهذا قول ما سبقه به أحد علمناه، بل كان ذلك خالصا له؛ كما ثبت في الصحيح عن عمر مبينا للآية. ولو كان هذا لكان قوله قال علماؤنا: ويقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينتقل ذلك إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر بن الخطات رضي الله عنه في أعوام الرمادة، وكانت خمسة أعوام أو ستة. وقد قيل عامين وقيل: عام فيه اشتد الطاعون مع الجوع. وإن لم يكن ما وصفنا ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين، ويعطى منه المنفوس ويبدأ بمن أبوه فقير. والفيء حلال للأغنياء. ويسوى بين الناس فيه إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة. والتفضيل فيه إنما يكون على قدر الحاجة. ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم. ويعطي منه الجائزة والصلة إن كان ذلك أهلا، ويرزق القضاء والحكام ومن فيه منفعة للمسلمين. وأولاهم بتوفر الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعا. ومن أخذ من ألفيء شيئا في الديوان كان عليه أن يغزو إذا غزي. قوله تعالى{كي لا يكون دولة} قراءة العامة {يكون} بالياء. {دولة} بالنصب، أي كي لا يكون الفيء دولة وقرأ أبو جعفر والأعرج وهشام - عن ابن عامر - وأبو حيوة {تكون} بتاء {دولة} بالرفع، أي كي لا تقع دولة. فكانت تامة. و{دولة} رفع على اسم كان ولا خبر له. ويجوز أن تكون ناقصة وخبرها {بين الأغنياء منكم}. وإذا كانت تامة فقوله{بين الأغنياء منكم} متعلق بـ {دولة} على معنى تداول بين الأغنياء منكم. ويجوز أن يكون {بين الأغنياء منكم} وصفا لـ {دولة}. وقراءة العامة {دولة} بضم الدال. وقرأها السلمي وأبو حيوة بالنصب. قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة (بالفتح) الظفر في الجواب وغيره، وهي المصدر. وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال. وكذا قال أبو عبيدة: الدولة اسم الشيء الذي يتداول. والدولة الفعل. ومعنى الآية: فعلنا ذلك في هذا الفيء، كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع. ثم يصطفي منها أيضا بعد المرباع ما شاء؛ وفيها قال شاعرهم: يقول: كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية. فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ يقسمه في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا جاء خمس وقع بين المسلمين جميعا. قوله تعالى{وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عه فانتهوا} أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عنه من الأخذ والغلول فانتهوا؛ قاله الحسن وغيره. السدي: ما أعطاكم من مال الفيء فأقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. الماوردي: وقيل إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه؛ لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد. قلت: هذا هو معنى القول الذي قبله. فهي ثلاثة أقوال. قال المهدوي: قوله تعالى{وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عنه فانتهوا} هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى. والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه دخل فيها. وقال الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال عبدالرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له: انزع عنك هذا. فقال الرجل: أتقرأ علي بهذا آية من كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، {وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عنه فانتهوا}. وقال عبدالله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ قال فقلت له: ما تقول - أصلحك الله - في المحرم يقتل الزنبور؟ قال فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. قوله تعالى{وما آتاكم الرسول فخذوه} وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة فإن معناه الأمر؛ بدليل قوله تعالى{وما نهاكم عنه فانتهوا} فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا بالأمر؛ والدليل على فهم ذلك ما ذكرناه قبل مع قوله عليه الصلاة والسلام: فأنزل الله تعالى هذه الآية. {واتقوا الله} أي عذاب الله، إنه شديد لمن عصاه. وقيل: اتقوا الله في أوامره ونواهيه فلا تضيعوها. {إن الله شديد العقاب} لمن خالف ما أمره به. {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} أي الفيء والغنائم {للفقراء المهاجرين}. وقيل{كي لا يكون دولة بين الأغنياء} ولكن يكون {للفقراء}. وقيل: هو بيان لقوله{ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} فلما ذكروا بأصنافهم قيل المال لهؤلاء، لأنهم فقراء ومهاجرون وقد أخرجوا من ديارهم؛ فهم أحق الناس به. وقيل{ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} للفقراء المهاجرين لكيلا يكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا. وقيل: والله شديد العقاب للمهاجرين؛ أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم. ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى{ولذي القربى واليتامى}. وقيل: هو عطف على ما مضى، ولم يأت بواو العطف كقولك: هذا المال لزيد لبكر لفلان لفلان. والمهاجرون هنا: من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حبا فيه ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والأوطان حبا لله ولرسول، حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ماله دثار غيرها. وقال عبدالرحمن بن أبزى وسعيد بن جبير: كان ناس من المهاجرين لأحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحج عليها ويغزو فنسبهم الله إلى الفقر وجحل لهم سهما في الزكاة. ومعنى {أخرجوا من ديارهم} أي أخرجهم كفار مكة؛ أي أحوجوهم إلى الخروج؛ وكانوا مائة رجل. {يبتغون} يطلبون. {فضلا من الله} أي غنيمة في الدنيا {ورضوانا} في الآخرة؛ أي مرضاة ربهم. {وينصرون الله ورسوله} في الجهاد في سبيل الله. {أولئك هم الصادقون} في فعلهم ذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله تعالى جعلني له خازنا وقاسما. ألا وإني باد بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين؛ أنا وأصحابي اخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا. {والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} قوله تعالى{والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم} لا خلاف أن الذين تبوؤوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها. {والإيمان} نصب بفعل غير تبوأ؛ لأن التبوء إنما يكون في الأماكن. و{من قبلهم} {من} صلة تبوأ والمعنى: والذين تبوؤوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه؛ لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ؛ كقوله تعالى واختلف أيضا هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة؛ فتأول قوم أنها معطوفة على قوله {للفقراء المهاجرين} وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض. ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله تعالى يقول{ وقال إسماعيل بن إسحاق: إن قوله {والذين تبوؤوا الدار} {والذين جاؤوا معطوف على ما قبل، وأنهم شركاء في الفيء؛ أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوؤوا الدار. وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية "روى مالك عن زيد بن أسلم" عن أبيه أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة: أن عمر أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم؛ لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحشوة والذراري، وأن الزبير وبلالا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم؛ فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك؛ فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش؛ فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين قلة. ومن أبى أعطاه ثمن حظه. فمن قال: إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قسم خيبر، لأن اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها. وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش. وقيل إنه تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى{للفقراء المهاجرين - إلى قوله - ربنا إنك رؤوف رحيم} على ما تقدم. والله اعلم. واختلف العلماء في قسمة العقار؛ فقال مالك: للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين. وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفا لمصالح المسلمين. وقال الشافعي: ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال. فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعله وقفا عليهم فله. ومن لم تطب نفسه فهو أحق بمال. وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم. قلت: وعلى هذا يكون قوله قال ابن وهب: سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف؛ ثم قرأ {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم} الآية. وقد مضى الكلام في هذا، وفي فضل الصلاة في المسجدين: المسجد الحرام ومسجد المدينة؛ فلا معنى للإعادة. قوله تعالى{ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره؛ كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين؛ المعنى مس حاجة من فقد ما أوتوا. وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم. ثم قال: قوله تعالى{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} وكذا ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار - يقال له أبو المتوكل - ثابت بن قيس ضيفا، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية؛ فنزلت {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة - إلى قوله - فأولئك هم المفلحون}. وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة. وذكر القشيري أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم: وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا؛ فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك؛ فنزلت {ويؤثرون على أنفسهم}. ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهودا فوجه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول؛ فنزلت{ويؤثرون على أنفسهم} الآية. وقال ابن عباس قال النبي للأنصار يوم بني النضير: الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية، ورغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا؛ أي خصصته به وفضلته. ومفعول الإيثار محذوف؛ أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها؛ حسب ما تقدم ببانه." وفي موطأ مالك"أنه بلغه ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها، وكان عشرة آلاف وكان المنكدر دخل عليها. فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه. فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم، فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال السائرة: ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حد المحبة: أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام، آثرته على نفسها فقالت: أنا راودته عن نفسه. وأفضل الجود بالنفس الجوة على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم. فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله! لا يصيبونك! نحري دون نحرك ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت. وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فاذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ! قدم علينا حاجا فقال لي: يا أبا يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا. وإن فقدنا صبرنا. فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا. وسئل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام؛ فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا؛ إيثارا لصاحبه على نفسه. العاشرة: قوله تعالى{ولو كان بهم خصاصة} الخصاصة: الحاجة التي مختل بها الحال. وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة؛ أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر. قوله تعالى{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} الشح والبخل سواء؛ يقال: رجل شحيح بين الشح والشح والشحاحة. قال عمرو بن كلثوم: وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص؛ تقول: شححت بالكسر تشح. وشححت أيضا تشح وتشح. ورجل شحيح، وقوم شحاح وأشحة. والمراد بالآية: الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة، وما شاكل ذلك. فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه. ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه. وروى الأسود عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله عز وجل يقول{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا. فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل. ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام، لا يقنع. ابن جبير: الشح منع الزكاة وادخار الحرام. ابن عيينة: الشح الظلم. الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان فذلك الشحيح. ابن زيد: من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عنه، ولم يدعه الشح على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به، فقد وقاه الله شح نفسه. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قلت: يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} قوله تعالى{والذين جاؤوا من بعدهم} يعني التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوؤوا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم. فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن شمسا، فإن لم تستطع فكن قمرا، فإن لم تستطع فكن كوكبا مضيئا، فإن لم تستطع فكن كوكبا صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع. ومعنى هذا: كن مهاجريا. فإن قلت: لا أجد، فكن أنصاريا. فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة؛ فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم{للفقراء المهاجرين} الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية فأنت من قوم قال الله فيهم{والذين تبوؤوا الدار والإيمان} الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى{والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الآية. وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، روى عن أبيه: أن نفرا من أهل العراق جاؤوا إليه، فسبوا أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم عثمان - رضي الله عنه - فأكثروا؛ فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا لا. فقال: أفمن الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا لا. فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل{والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم{ قوموا، فعل الله بكم وفعل ذكره النحاس. هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحدا منهم أو اعتقد فيه شرا إنه لا حق له في ألفيء؛ روي ذلك عن مالك وغيره. قال مالك: من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين؛ ثم قرأ {والذين جاؤوا من بعدهم} الآية. هذه الآية تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والأرض شملا بين المسلمين أجمعين؛ كما فعل عمر رضي الله عنه؛ إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمرا فيمضى عمله فيه لاختلاف الناس عليه وأن هذه الآية قاضية بذلك؛ لأن الله تعالى أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف: المهاجرين والأنصار - وهم معلمون - {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}. فهي عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: قوله تعالى{يقولون} نصب في موضع الحال؛ أي قائلين. {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} فيه وجهان: أحدهما: أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة رضي الله عنها: فأمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم. الثاني: أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وقالت عائشة: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد فسببتموهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون} قوله تعالى{ألم تر إلى الذين نافقوا} تعجب من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا. ومن جملة المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، وعبدالله بن نبتل، ورفاعة بن زيد. وقيل: رافعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا، وقالوا ليهود قريظة والنضير. {لئن أخرجتم لنخرجن معكم} وقيل: هو من قول بني النضير لقريظة. {ولا نطيع فيكم أحدا أبدا} يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لا نطيعه في قتالكم. وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة علم الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا، وقوتلوا فلم ينصروهم؛ كما قال الله تعالى{والله يشهد إنهم لكاذبون} أي في قولهم وفعلهم. {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} قوله تعالى{لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار{ أي منهزمين. }ثم لا ينصرون{ قيل: معنى {لا ينصرونهم} طائعين. {ولئن نصروهم} مكرهين {ليولن الأدبار}. وقيل: معنى {لا ينصرونهم} لا يدومون عل نصرهم. هذا على أن الضميرين متفقان. وقيل: إنهما مختلفان؛ والمعنى لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم. {ولئن نصروهم} أي ولئن نصر اليهود المنافقين {ليولن الأدبار}. وقيل{لئن أخرجوا لا يخرجون معهم} أي علم الله منهم أنهم لا يخرجون إن أخرجوا. {ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} أي علم الله منهم ذلك. ثم قال{ليولن الأدبار} فأخبر عما قد أخبر أنه لا يكون كيف كان يكون لو كان؟ وهو كقوله تعالى {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} قوله تعالى{لأنتم} يا معشر المسلمين {أشد رهبة} أي خوفا وخشية {في صدورهم من الله} يعني صدور بني النضير. وقيل: في صدور المنافقين. ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين؛ أي يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ذلك الخوف. {ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته. {لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} قوله تعالى{لا يقاتلونكم جميعا} يعني اليهود {إلا في قرى محصنة} أي بالحيطان والدور؛ يظنون أنها تمنعهم منكم. {أو من وراء جدر} أي من خلف حيطان يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. وقراءة العامة {جدر} على الجمع، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم؛ لأنها نظير قوله تعالى{في قرى محصنة} وذلك جمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو {جدار} على التوحيد؛ لأن التوحيد يؤدي عن الجمع. وروي عن بعض المكيين {جدر} بفتح الجيم وإسكان الدال؛ وهي لغة في الجدار. ويجوز أن يكون معناه من وراء نخيلهم وشجرهم؛ يقال: أجدر النخل إذا طلعت رؤوسه في أول الربيع. والجدر: نبت واحدته جدرة. وقرئ {جدر} بضم الجيم وإسكان الدال جمع الجدار. ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف كتاب، وفي الجمع كألف ظراف. ومثله ناقة هجان ونوق هجان؛ لأنك تقول في التثنية: هجانان؛ فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى؛ قاله ابن جني. قوله تعالى{بأسهم بينهم شديد} يعني عداوة بعضهم لبعض. وقال مجاهد{بأسهم بينهم شديد} أي بالكلام والوعيد لنفعلن كذا. وقال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد. وقيل{بأسهم بينهم شديد} أي إذا لم يلقوا عدوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، ولكن إذا لقوا العدو انهزموا. {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} يعني اليهود والمنافقين؛ قال مجاهد. وعنه أيضا يعني المنافقين. الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب. وقال قتادة{تحسبهم جميعا} أي مجتمعين على أمر ورأي. {وقلوبهم شتى} متفرقة. فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وعن مجاهد أيضا: أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود؛ وهذا ليقوي أنفس المؤمنين عليهم. وقال الشاعر : وفي قراءة ابن مسعود {وقلوبهم أشت} يعني أشد تشتيتا؛ أي أشد اختلافا. {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} أي ذلك التشتيت والكفر بأنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله.
|